يخفق قلب الدكتور أحمد بإطراب كلما اقتربت عجلات الطائرة من أحضان أرض المطار، فهو متلهف للعودة سريعا إلى بيته الذي غاب عنه قرابة العام، هاهي الطائرة ترتمي في أحضان المدرج كما ترتمي الطفلة في أحضان والدها.
لا أحد سيستقبلني الليلة ولكن لا بأس فزوجتي وولدي ينتظراني بلهفة، تمتم الدكتور أحمد بهذه الكلمات و هو يسابق الركاب لمبنى المطار في عجلة، كيف لا يكون مستعجلا و هو غاب فتره طويلة عن منزله و عن ولده الوحيد مصطفى ذو الخمسة أعوام، فلقد أطر لترك زوجته وولده ليكمل دراسة جراحة القلب خارج البلاد حيث أن دخله لا يكفي لمصاريف عائلته هناك.
ينهي الدكتور إجراءات المطار و يتوجه ليستأجر سيارة لموزين من المطار لكن الوقت متأخر و يبدوا أن السائقين قلائل و لقد أخد باقي الركاب كل السيارات رغم أن هذا لا يحدث عادتا لكن الدكتور ولعجلته لم يستطع الانتظار أكثر فستأجر سيارة أجرة من المطار وكدس الحقائب في السيارة إلا علبة واحدة لفة في ورق مزركش جعلها بجانب مقعد السائق لقد كان يعامل تلك العلبة برفق واضح و ينضر لها و يبتسم كلما تأكد أنها ما زالت مرتبة و جميلة و أن الشريط الأحمر الذي يلفها ما زال في مكانه.
جلس الدكتور أحمد في مكانه خلف المقود وبدء يسير باتجاه مدينته التي حن لها كثيرا، أنها القطيف الحبيبة و هو يتخيل كيف ستستقبله زوجته الوفية ليلى التي صبرت طويلا لأجله و هو قد حقق حلمه و عاد بشهادة رفيعة في جراحة القلب و آن الأوان أن يعيش بين ولده و زوجته ليرد لهما ما كانا حرما منه من عطف و حنان.
تكاد الدموع تفر من عينيه كلما تذكر كلام أبنه مصطفى في آخر مكالمة هاتفية حينما قال: لما ذا تغيب عنا كثيرا يا بابا ابن خالتي حسن دائما مع أبيه. لقد طلب هدية في تلك المكالمة وهي طائرة كلتي يرها في المطار مع والدته، أن مصطفى يحب الطائرات لأنه يعتقد أنها هي التي تجلب أباه له. وهاهي الطائرة بجانب الدكتور أحمد الذي يتحرق شوقا لرؤية فرحة ولده الوحيد بها.
لقد أقترب الدكتور من القطيف أن نخيلات الأوجام تقف على جانب الطريق وتحرك سعفاتها نسائم الليل تحت ضوء البدر الساطع فكأنها جميعا ترحب بالدكتور و تهنئ نجاحه و تفوقه و تطالبه بأن يبادر بخدمة بلاده و أهله وهنا فكر أحمد في والدته التي تدعوا له صباحا مساء و يتمنى أن يقوم برعايتها فهو و لدها الوحيد و منذ أن مات والده صعبت معيشتها لنقص الدخل ولآن هاهو يعود ليعوضها كل ما قاست من أجله ليحتضنها و يقبل يديها التين طالما حملته وهو صغير.
لقد صعد جسر صفوي و نحرف باتجاه قريت العوامية وهناك تذكر أيام خطوبته عندما كان يطر لمرور على قرية العوامية لأخذ زوجته من صفوى إلى القطيف، لقد حن الدكتور لزوجته كثيرا لكنه الآن قادم وقد لبس أفضل ثيابه ووضع عطرا رائعا ليستقبل زوجته الحنون الصبور.
كان ألدكتور مستعجلا فمر من الطريق الزراعي خلف قرية العوامية فهو أقرب للمنزل وبينما هو كذلك غارق في أحلامه و إذا بشباب يسدون الطريق بسيارتهم أمامه!
لقد ضن الدكتور أن سيارتهم معطلة، فأوقف سيارته بهدوء ينتظر ليرى ماذا يجري لكنه فوجئ بمجموعة من اصحاب الدراجات النارية يحيطون به، وبسرعه يفتحون الباب و يطلبون منه الترجل مهددينه بسكين، لقد فوجئ الدكتور أحمد الذي لم يعتد هذه المناظر في بلدنا الآمن فرضخ لتهديداتهم و نزل من السيارة.
قال أحدهم : أنظروا لملابسه يبدوا ثريا.
فرد عليه آخر بلهجة ساخرة: بل شم عطره أنه أنيق كأن له موعد مع إحدى العاهرات.
تمالك أحمد غيظه وهو يتجرع تلك الكلمات المرة وقال : ماذا تريدون مني؟!
فقام أحدهم بتحطيم زجاج النافدة الأمامية بهمجية وهو يقول هيا يا شباب فتجاوبوا معه فمجموعة إتجهت لسيارة تحطمها و أخرى إنهالت ضربا على الدكتور المسكين حتى سقط خائر القوى وهو يقول : ما الذي جنيت يا أبناء بلادي أليوم جأت مشتاقا لخدمتكم.
لقد سرقوا كل شيء لكن الدكتور لم يعارضهم أراد أن ينتهي كل شيء بسلام ليعود لولده الصغير فقلبه يكاد ينفطر لفراقه ولكن بينما هو كذالك لمح أحدهم يأخد الهدية تلك الطائرة التي هي حلم ابنه الوحيد فنتفض الدكتور الأسد الغضبان و نهال عليهم ضربا وهم يردون عليه بطعنات سكاكينهم ممزفين لحمه دون رأفة.
لكنه تمكن من إنتزاع الهدية من بين أيديهم و سقط على الأرض وهو يضمها الى صدره بشده قائلا: كلا، الا هذه لا تفسدوا فرحت طفل برئ.
لقد فزعوا حينما تبين لهم أن الدكتو ينزف بشده فلاذوا بالفرار وكل واحد منهم يلوم صاحبه متهما أياه بأنه السبب.
لقد مات الدكتور أحمد، ولكن الطائرة و صلت لولده الصغير ولم تأتي بأبيه كما كان يحلم.
بقي مصطفى يسأل أمه لماذا لا لم تعد تأتي الطائرة بأبي؟!
فقولوا لهل كيف تجيبه
لقد خسرنا أبا طيبا و زوجا مخلصا و ولدا بارا و عالما طبيبا بسبب مجموعة من المتهورين.
من هو الخاسر الحقيقي نحن أم الدكتور أحمد؟
أم هو مصطفى الذي يتمته أيدي السفهاء؟!