الجمعة، 9 سبتمبر 2011

متى ستأتي الطائرة بأبي؟



يخفق قلب الدكتور أحمد بإطراب كلما اقتربت عجلات الطائرة من أحضان أرض ‏المطار، فهو متلهف للعودة سريعا إلى بيته الذي غاب عنه قرابة العام، هاهي الطائرة ‏ترتمي في أحضان المدرج كما ترتمي الطفلة في أحضان والدها.‏

‏ لا أحد سيستقبلني الليلة ولكن لا بأس فزوجتي وولدي ينتظراني بلهفة، تمتم الدكتور ‏أحمد بهذه الكلمات و هو يسابق الركاب لمبنى المطار في عجلة، كيف لا يكون ‏مستعجلا و هو غاب فتره طويلة عن منزله و عن ولده الوحيد مصطفى ذو الخمسة ‏أعوام، فلقد أطر لترك زوجته وولده ليكمل دراسة جراحة القلب خارج البلاد حيث أن ‏دخله لا يكفي لمصاريف عائلته هناك.‏

ينهي الدكتور إجراءات المطار و يتوجه ليستأجر سيارة لموزين من المطار لكن الوقت ‏متأخر و يبدوا أن السائقين قلائل و لقد أخد باقي الركاب كل السيارات رغم أن هذا لا ‏يحدث عادتا لكن الدكتور ولعجلته لم يستطع الانتظار أكثر فستأجر سيارة أجرة من ‏المطار وكدس الحقائب في السيارة إلا علبة واحدة لفة في ورق مزركش جعلها بجانب ‏مقعد السائق لقد كان يعامل تلك العلبة برفق واضح و ينضر لها و يبتسم كلما تأكد أنها ما ‏زالت مرتبة و جميلة و أن الشريط الأحمر الذي يلفها ما زال في مكانه.‏

جلس الدكتور أحمد في مكانه خلف المقود وبدء يسير باتجاه مدينته التي حن لها كثيرا، ‏أنها القطيف الحبيبة و هو يتخيل كيف ستستقبله زوجته الوفية ليلى التي صبرت طويلا ‏لأجله و هو قد حقق حلمه و عاد بشهادة رفيعة في جراحة القلب و آن الأوان أن يعيش ‏بين ولده و زوجته ليرد لهما ما كانا حرما منه من عطف و حنان.‏

تكاد الدموع تفر من عينيه كلما تذكر كلام أبنه مصطفى في آخر مكالمة هاتفية حينما ‏قال: لما ذا تغيب عنا كثيرا يا بابا ابن خالتي حسن دائما مع أبيه. لقد طلب هدية في تلك ‏المكالمة وهي طائرة كلتي يرها في المطار مع والدته، أن مصطفى يحب الطائرات لأنه ‏يعتقد أنها هي التي تجلب أباه له. وهاهي الطائرة بجانب الدكتور أحمد الذي يتحرق شوقا ‏لرؤية فرحة ولده الوحيد بها.‏

لقد أقترب الدكتور من القطيف أن نخيلات الأوجام تقف على جانب الطريق وتحرك ‏سعفاتها نسائم الليل تحت ضوء البدر الساطع فكأنها جميعا ترحب بالدكتور و تهنئ ‏نجاحه و تفوقه و تطالبه بأن يبادر بخدمة بلاده و أهله وهنا فكر أحمد في والدته التي ‏تدعوا له صباحا مساء و يتمنى أن يقوم برعايتها فهو و لدها الوحيد و منذ أن مات والده ‏صعبت معيشتها لنقص الدخل ولآن هاهو يعود ليعوضها كل ما قاست من أجله ‏ليحتضنها و يقبل يديها التين طالما حملته وهو صغير.‏
لقد صعد جسر صفوي و نحرف باتجاه قريت العوامية وهناك تذكر أيام خطوبته عندما ‏كان يطر لمرور على قرية العوامية لأخذ زوجته من صفوى إلى القطيف، لقد حن ‏الدكتور لزوجته كثيرا لكنه الآن قادم وقد لبس أفضل ثيابه ووضع عطرا رائعا ليستقبل ‏زوجته الحنون الصبور.‏

كان ألدكتور مستعجلا فمر من الطريق الزراعي خلف قرية العوامية فهو أقرب للمنزل ‏وبينما هو كذلك غارق في أحلامه و إذا بشباب يسدون الطريق بسيارتهم أمامه!‏

لقد ضن الدكتور أن سيارتهم معطلة، فأوقف سيارته بهدوء ينتظر ليرى ماذا يجري ‏لكنه فوجئ بمجموعة من اصحاب الدراجات النارية يحيطون به، وبسرعه يفتحون ‏الباب و يطلبون منه الترجل مهددينه بسكين، لقد فوجئ الدكتور أحمد الذي لم يعتد هذه ‏المناظر في بلدنا الآمن فرضخ لتهديداتهم و نزل من السيارة.‏

قال أحدهم : أنظروا لملابسه يبدوا ثريا.‏
فرد عليه آخر بلهجة ساخرة: بل شم عطره أنه أنيق كأن له موعد مع إحدى العاهرات.‏

تمالك أحمد غيظه وهو يتجرع تلك الكلمات المرة وقال : ماذا تريدون مني؟!‏

فقام أحدهم بتحطيم زجاج النافدة الأمامية بهمجية وهو يقول هيا يا شباب فتجاوبوا معه ‏فمجموعة إتجهت لسيارة تحطمها و أخرى إنهالت ضربا على الدكتور المسكين حتى ‏سقط خائر القوى وهو يقول : ما الذي جنيت يا أبناء بلادي أليوم جأت مشتاقا لخدمتكم.‏

لقد سرقوا كل شيء لكن الدكتور لم يعارضهم أراد أن ينتهي كل شيء بسلام ليعود لولده ‏الصغير فقلبه يكاد ينفطر لفراقه ولكن بينما هو كذالك لمح أحدهم يأخد الهدية تلك الطائرة ‏التي هي حلم ابنه الوحيد فنتفض الدكتور الأسد الغضبان و نهال عليهم ضربا وهم ‏يردون عليه بطعنات سكاكينهم ممزفين لحمه دون رأفة.‏

‏ لكنه تمكن من إنتزاع الهدية من بين أيديهم و سقط على الأرض وهو يضمها الى صدره ‏بشده قائلا: كلا، الا هذه لا تفسدوا فرحت طفل برئ.‏

لقد فزعوا حينما تبين لهم أن الدكتو ينزف بشده فلاذوا بالفرار وكل واحد منهم يلوم ‏صاحبه متهما أياه بأنه السبب.‏

لقد مات الدكتور أحمد، ولكن الطائرة و صلت لولده الصغير ولم تأتي بأبيه كما كان ‏يحلم.‏
بقي مصطفى يسأل أمه لماذا لا لم تعد تأتي الطائرة بأبي؟!‏

فقولوا لهل كيف تجيبه ‏

لقد خسرنا أبا طيبا و زوجا مخلصا و ولدا بارا و عالما طبيبا بسبب مجموعة من ‏المتهورين.‏
من هو الخاسر الحقيقي نحن أم الدكتور أحمد؟
أم هو مصطفى الذي يتمته أيدي السفهاء؟!‏